Tuesday, January 1, 2008

الدعوة المستجابة



خرجت وفاء من المعمل فأشارت الى التاكسى القادم نحوها ليقلها سريعا الى منزلها
وما ان وصلت حتى صعدت الدرج بخطوات واسعة وبأنفاس متلاحقة... ولم تهدأ حتى وضعت يدها عى جرس الباب
بعد ثوان فتح الباب ...لتجد وفاء بنت اختها امامها فتعانقها قائلة
انتم هنا من بدرى
من زمان يا خالتو ...انتى رحتى فين قلقتينا عليكى
فخرجت اخرى من احدى الحجرات المطلة على الصالة الواسعة قائلة
كنتى فين يا وفاء...وقافلة موبايلك ليه؟؟
وبعدين انتى مش الشيفت بتاعك بليل!!؟؟
معلش مشوار طرأ فجاة يا فايزة.....المهم اتغديتوا ولا لسه
احنا اتغدينا قبل ما نيجى ..بس انا جهزت الغدا للحاجة والحمد لله اتغدت ونامت
فايزة هى الاخت الكبرى لوفاء وايمان...ولأنها قاربت الخمسين من عمرها ..فلا تنادى والدتها الا بلقب الحاجة ...خاصة وانها لا تصغرها الا بستة عشر عاما....حيث تزوجت الوالدة فى سن صغيرة
كما انها شاركت فى تربية اخواتها البنات حتى تزوجت وانجبت هى الاخرى بنتين وولد
تزوجت الكبرى ...لتصبح فايزة جدة بدورها
كما تزوجت ايمان الاخت الصغرى لوفاء.....لتظل وفاء بجوار والدتها تراعيها وتشرف على حالتها الصحية بنفسها حيث انها طبيبة
المهم .... كنت عايزاكى فى موضوع كده....قالت فايزة
ولم تنتظر منها كلام...فسحبت يدها الى غرفتها وأغلقت الباب
فتابعت قائلة
بصى يا وفاء بقى ....العريس اللى حأقولك عليه دلوقتى .....مينفعش تقولى عنه حاجة
احنا كلنا شايفينه مناسب جدا ليكى......هو صحيح عنده ولد من مراته الاولانية...بس انا عارفة من الاول انك معندكيش مشاكل فى موضوع الاولاد.....وانك بتحبى الاطفال جدا وكان نفسك تاخدى ثواب فى تربية يتيم....واهى جاتلك الفرصة
العريس عنده 43 سنة و مراته ماتت بقالها سنة كده....وهو دلوقتى بيدور على عروسة مناسبة تقبل ظروفه....ومش حيلاقى احسن منك ...دكتورة اطفال اد الدنيا ..وزى القمر ودين وأخلاق والتزام ويا دوبك مقفلة التسعة وتلاتين سنة
يعنى متفصلين على بعض تفصيل
وبعدين مقلتلكيش ده بيشتغل فى البنك مع احمد جوزى ومرتبه اكبر منه كمان...ده غير شقته....ده كان عزمنا عنده من كذا سنة كده ...ولقيته ابن ناس ومحترم ....وكمان..........انتى عاملة كده ليه!!!!!!!!!!!؟
قطعت فايزة كلامها حين وجدت وفاء دامعة العينين..تحمل ابتسامة خفيفة على شفتيها
تابعت فايزة بحدة لأ انا مباحبش البصة دى وعارفة اللى وراها .....احنا مش حنسيبك كده تضيعى عمرك
والحاجة اللى كنتى متحججة بيها قبل كده...انا لسه سايباها نايمة معيطة بتشكيلى غلبها وقلقها عليكى
وخايفة ليجرالها حاجة قبل ما تشوفك فى بيتك
ثم هدأت نبرة صوتها لتقول ....يا وفاء طمنيها بقى وطمنينا عليكى .....خلى قلبنا يرتاح
وسيبك شوية بس من المستشفى والعيا والامراض والحاجات اللى مليتى بيها حياتك دى

تنهدت وفاء تنهيدة طويلة تدل على صعوبة ما ستقوله
فأردفت قائلة
ولو انا سبتنى من الامراض والعيا وكل اللى بتقولى عليه....تفتكرى هى حتسيبنى
تقصدى ايه!! ...مش فاهمة!!
يا فايزة انا عايزاكى تسمعينى ...بس توعدينى الاول انك تفضلى هادية
لم ترد فايزة....غير أنها انتبهت بشدة
تابعت وفاء
انتى عارفة انا من زمان نفسى ان ربنا يفتح لى باب من ابواب الاجر وينعم عليا بشىء أثاب عليه وترفع بيه درجاتى...يعنى زى ما قلتى اربى يتيم مثلا ...وكنت بأدعى ربنا أنه يبعتلى الفرصة ...بس نسيت ان مش انا اللى اقرر نوع الفرصة ونوع الاجر....وان ربنا وحده هو القادر على كده
وانا اكتشفت النهارده مرتين ان ربنا استجاب لدعائى
واتأكدت من رضا ربنا عليا
المرة التانية ...لما قلتيلى دلوقتى ان العريس اللى جايباه عنده ابن يتيم
والمرة الاولانية!!؟؟؟؟......سألت فايزة
لما ربنا قدر لى أجر احلى وثواب اكبر وجزاء أعظم
وكمان يشرككم معايا فى االاجر ده
لكنه ثواب مشروط وجزاءه يعتمد على حاجات مهمة قوى......الصبر والرضا
من الاخر يا فايزة ربنا انعم على بابتلاء صعب ....مرض خبيث عاصرته كتير وشفت قوته مع اطفال كتير...منهم اللى ربنا أكرمهم بالشفاء ومنهم اللى لسه فى صراع مع المرض ..ومنهم اللى أنعم عليهم واختارهم بجواره عشان يرتاحوا بعد تعب
وانا لسه حأشوف نصيبى حيكون ايه فى دول
وربنا يعلم انى راضية وصابرة لقضاؤه بقلب مليان ايمان
ومش عايزاكم تبقوا اقل منى فى ده ....وتضيعوا عليكم جزاء ربنا
مرض ايه يا وفاء..!؟؟....انتى بتقولى ايه ؟؟؟؟.....انتى جبتى الكلام الفارغ ده منين
انا سايباكى تقولى وتعيدى ومش فاهمة انتى بتكلمى عن ايه
............انتى بتتمنى المرض لنفسك يا وفاء...؟؟...انتى
قاطعتها وفاء واضعة يدها على فمها
احنا اتفقنا تفضلى هادية....وبعدين ماما تصحى ......انا مش ناوية اقولها حاجة خالص
واللى انا باقوله ده مش من دماغى ولا تهيؤات....انا لسه جايبة نتيجة الماموجرام حالا......واتأكدت من شكوك كانت عندى من فترة...وانتى بالذات يا فايزة محتاجة دعمك
يعنى ايه ...الكلام ده بجد؟
اومأت وفاء برأسها للمرة الاخيرة مؤكدة كلامها
فانخرطت فايزة فى بكاء ونحيب.....واحتضنت اختها بقوة....وكأنها تحاول انتزاعها من براثن مرض شديد وامر عظيم يكاد يعصف بأمان وسكينة عائلة بأكملها
بعد سنة
تنادى الحاجة الأم....على وفاء
فتأتى مسرعة لتلبية مطلب أمها
نعم يا حبيبتى ....كنت بارتب شنطتى ورايحة اعملك النعناع حالا
يا بنتى بلاها السفرية دى....وشوفى حد من زمايلك يروح بدالك....انتى صحتك مش عاجبانى...وشايفاكى فى النازل ...ماحدش بيهلك نفسه فى الشغل كده
مينفعش يا ماما....الندوة اللى انا رايحاها دى انا مطلوبة فيها بالاسم.....وخلاص عملوا حسابهم على كده...يرضيكى أطلع صغيرة
لا يا بنتى ....لا يا حبيبتى ...ماعاش اللى يصغرك ...ولا يوقع كلمتك
انا بس سامعة ان القاهرة زحمة ودخان....وشايفة يعنى صدرك تعبان..وكحتك وحشة
بس مادام انتى شايفة كده خلاص.....
واهو شوية مطمنى ان اخواتك رايحين الفرح ده....انتو قلتولى ده فرح مين؟؟؟
ده يا ماما فرح بنت صاحب جوز فايزة.....ومعمول فى القاهرة عشان العريس قاهرى وحيعيشوا هناك
طب يا بنتى كل قرايبهم اللى فى اسكندرية يا عينى حيتشحططوا كده برضه؟؟ ...وبعدين ايمان اختك رايحة ليه مادام صحاب فايزة....
لأ...ماااا...ماهو يعرفوا ايمان وجوزها برضه
طيب ...انا المهم عندى يجيبوكى فى ايدهم وهم راجعين
وانا المهم عندى ...متحاوليش ترهقى نفسك فى اى حاجة واهو بنات فايزة الاتنين حيعدوا معاكى اليومين دول ..وعايزين يشيلوكى من على الارض شيل
متقلقيش يا بنتى عليا....سافرى انتى فى رعاية ربنا
ربنا يحميكى ويرضى عنك ويرزقك بالخير دايما وينولك اللى فى بالك
ابتسمت وفاء ابتسامة واسعة....وقالت
احلى دعوة يا حاجة
كانت الحاجة رقية ...مثال للأصل الطيب والنية الحسنة ...وكرم الأخلاق ...فلم تعامل الناس الا بالحسنى...ولم ترد الاساءة بمثلها...بل كانت بالمعروف تتعامل ...وبالود تتواصل مع رحمها ومعارفها.....كانت باختصار انسانة حلوة المعشر....قريبة لربها تعامله فى كل الناس...ولطيبتها المفرطة لم تشك يوما فى ان يكذبن بناتها عليها...او ان يختلقن حكاية ليس لها اساس ....فوفاء مضطرة لعمل عملية أخرى...ولم يجدوا وسيلة غير اقناع الحاجة بسفرهم بالصدفة للقاهرة فى وقت واحد لاجراء العملية
كما انها لم تلحظ مطلقا اثار العملية الاولى لابنتها...وقد كانت وفاء حريصة كل الحرص على اخفاء الامر عنها...فمهما كانت قوة ايمانها ...لن تستطيع تحمل الفكرة ومواجهة باقى صعاب ومفاجاءت المرض المستمرة

بعد ثلاثة أشهر

لا تزال وفاء ...الانسانة الجميلة الباسمة دائما ...متفانية فى عملها ..تحمل حبا عجيبا للاطفال..ملتزمة بمواعيد عملها وخاصة المناوبات الليلية...فى حين تستطيع الاعتماد على زملائها ممن يعرضون خدماتهم بشكل مستمر...للتخفيف بقدر المستطاع عنها
وعن طريق الصدفة البحتة وعن طريق احدى زملائها وقد كان من القلائل اللائى يعرفون حقيقة مرضها...عرف أمجد وزوجته نيفين.وهما لهما صلة قرابة بوفاء...هذا الموضوع...قاموا بكتمان هذا الامر عن باقى العائلة الكبيرة...التزاما منهما واحتراما لما أرادته صاحبة الشأن...وهما يعرفان ان السبب وراء هذا التكتم هو ضمان عدم وصول الامر الى الحاجة رقية
كما اخفا عن وفاء واخواتها معرفتهما بالأمر
بدأ شهر رمضان...وبدأ الناس الصيام والقيام
ولكن وفاء ..لم يجد عليها جديد ...فمتى هجرت القيام ..كى تبدأه فى رمضان
ومتى كفت عن الدعاء باخلاص وخشوع كى تبدأ ان تخشع الآن
.سبحان الله ...ما زاد عليها الا ابتسامات وبشاشة وجه...ونور ايمان يملأ القلب ويفيض
ويا للعجب ان يجتمع هذا مع جسم نحيل ووجه نحيف ...وعينين زائغتين...تلمعان ببريق عجيب
هذا ما رآه امجد ونيفين...حين قاما بزيارتها والحاجة رقية كما تعودوا ان يفعلوا فى كل عيد او مناسبة حيث يتأتى للجميع فرصة زيارة الاهل والاقارب
وزادت دهشتهما حين وجداها اكثر مرحا وانطلاقا وتفاؤلا....ودار معظم حوارهما كالعادة على الاطفال...وعن اخر الابحاث الطبية والاكتشافات العلمية..وعن كيفية زيادة مناعة الطفل..وحتى عن الاهتمام بالناحية النفسية للطفل...لكنهما لاحظا ان هذه المرة لم تقم وفاء بحمل ابنتهما الصغرى كالعادة...واكتفت بملاعبتها والاشارة لها وهى تجلس بجوارها..وقد أدركا ان حالتها الصحية لا تسمح بالكثير فى الوقت الحالى
انتهت الزيارة على وعد من وفاء لنيفين بان تقوم بزيارتها قريبا
وبدعاء من الحاجة رقية لهما ...وعيدية ضخمة لأطفالهما.كما تعودت مع أطفال العائلة كلها ومعهما من زمن حين كانا صغيرين بدورهما

بعد شهرين
وبعد انقضاء اول ثلاث ايام فى عيد الاضحى...وفى صباح اليوم الرابع...تقول نيفين لزوجها
ان عليهما زيارة وفاء والحاجة رقية للاطمئنان عليها...فلم يستطعا الاتصال قبل ذلك حتى لا تشك وفاء بمعرفتهما شيئا
وها قد اتت فرصة لن تتكرر قريبا ...فالزيارة فى العيد منطقية ولا تثير الشك
فقال امجد ان هذا ما انتواه مسبقا..ولكنه كان ينتظر هدوء الجو العاصف الذى غمر الاسكندرية فى العيد...والذى يصعب معه خروج الاطفال..وما أن أنهى جملته حتى رن جرس الهاتف
قام أمجد بالرد عليه... وبعد رد السلام..وانقضاء ما لم يتعد الدقيقة....لم ينبس أمجد ببنت شفة ...فقط لمعت عيناه وتغيرت ملامحه..ثم شكر من كان يهاتفه .وأغلق السماعة...
تنظر له نيفين وعلى وجهها علامات التعجب والاستفهام ..محركة رأسها تساؤلا
نظر أمجد فى عينيها مباشرة ثم قال
وفاء ..كانت راحت تحج
وبعدين!؟
بعد ما نزلت من على عرفة تعبت شوية...وبعد طواف الافاضة.....اغمى عليها...وبعدها بشوية .....
............ماتت.....................
.
فى ليلة العزاء
الحال اصعب من ان يوصف
الحاجة رقية....لا يستطيع احد تمييز او سماع ما تقوله
الا ان مع بعض التركيز...تستطيع ان تميز نحيبا مخلوط بتمتمة من الدعاء ...ولكن...بصوت خفيض للغاية
أكثرهم هدوءا وتقبلا...فايزة....
وحين دخلت نيفين مع أسرتها لتقديم واجب العزاء....جلست بجانب فايزة
..وجاهدت نفسها لتقول ما يجب قوله فى مثل هذه المواقف دون ان يظهر تهدج نبرات صوتها ..حتى لا يزيد الامر عن حده...ففوجئت بفايزة تبتسم لها وتقول ....وفاء بتسلم عليكى قوى على فكرة...ووصتنى اعتذرلك عن انها ملحقتش توفى بوعدها معاكى
وعد ايه يا طنط ؟؟؟
كانت عايزة تزورك قبل ما تسافر..عشان وعدتك بكده....لكن ملحقتش.وانتى عارفة الوعد عند وفاء ميثاق..ودعت ربنا انها تموت هناك بعد ما تخلص حجها....يعنى كانت عارفة انها مش حترجع...عشان كده قالتلى اعتذرلك
انا مش زعلانة على فكرة
انا فرحانة قوى عشانها
ثم ربتت على كتف نيفين ..وقامت من مقعدها لتترك نيفين تجاهد دموعها مرة اخرى ولكنها هذه المرة لا تستطيع
علمت نيفين بعد ذلك ان الدكتورة وفاء كانت تدعو الله ليلا ونهارا..ان يطيل فى عمرها.حتى تزور عرفة فقط وان يقضى أمر الله عليها بعد ان يغفر لها ذنوبها فترجع كما ولدت بصفحات بيضاء نقية
كما انها أرجعت لأختها فايزة النقود التى اعطتها لها والدتها لشراء بعض الهدايا للاحبة والاقارب..وقالت لها باذن الله وحده لن اعود ...أشتاق للقاء ربى ..ولن يخذلنى ان شاء الله
هل من الممكن حقا ان يختار شخص نوع ابتلائه او ان يحدد مكان وفاته ووقته
هل ممكن اذا دعا ربه ..وأخلص فى الدعاء وتمنى ذلك بكل ذرة فى جسده وبكل خلية فى دمه
واجتمع ذلك مع حب ربه له الذى يظهر فى ابتلائه

((ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم))

توفت الدكتورة وفاء فى الحج المنقضى من ايام فقط...والاحداث الرئيسية حدثت فعلا...ولكن لا يخلو الامر من بعض الاضافات فى بعض الجمل الحوارية
كنت انا فى هذه التدوينة..."نيفين" ..واعتذر عن افتقاد النص الى الحبكة الدرامية والتصريحات الجمالية
فلم أقصد كتابة قصة بقدر ما قصدت اشراككم فى مود نفسى عجيب .وشعور يصعب وصفه..هو خليط من شجن وايمان وخوف واطمئنان وحزن وسكينة....المهم انها حالة مزاجية فريدة لا تتكرر كثيرا فى هذه الحياة
أعتذر بشدة عن الاطالة
فقط أدعو الله الا نكون ممن يعبدونه على حرف..فان أصابهم خير اطمأنوا به وان اصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم
فكما قال الامام الحسن البصرى...
كانوا يتساوون فى وقت النعم ..فاذا نزل البلاء تباينوا
كما أدعوه أن ينعم علينا وأهلنا جميعا بحسن الخاتمة

اللهم امين...


.. .