Saturday, January 17, 2009

رسالة عاجزة

جلس امام جهاز الكمبيوتر ..وبدأ فى التصفح .. 
مدونته ..لا جديد..غير ان لون التمبليت يزداد كآبة
مدوناته المفضلة ... معظمها تكتب عن غزة وأحوالها لا يتعجب فهى الحدث الرئيسى الآن والذى يشغل الجميع ..لكنه لم يعد قادرا على قراءة جديد بشأنها ..ببساطة لأنه لا جديد الا ازدياد عدد الشهداء والجرحى .. وهو ما يتابعه بصعوبة على قناة تلفازه الاخبارية
أصابه شىء من السأم والملل...
قرر ان يتوقف عن القراءة عن تلك الاحوال .. وليصنع جوا خاص به بعيدا عن هذا الازعاج .. وقد يكون هذا من شأنه تعديل ضغط دمه المرتفع بشدة  وتجاوبا مع اوامر طبيبه بعدم شغل نفسه بالأمور المزعجة حفاظا على صحته
شيئاً من عدم الاكتراث كغيره لن يضير
فليبحث اولا فى ايميلاته عن جديد قبل ان يغلق جهازه
فإذا به يجد عددا مهولا من الرسائل.. وفى ايميله الخاص جدا والذى لا يعرفه الكثير
تبا لتلك الفوروارد...انتشر ايميلى الخاص الآن بين الكثير
يتصفح الاسماء سريعا ..ولا يعرف منهم الا قليلا
فجأة تقع عيناه على تلك الاسم " دمية الثلج..
 انتظر لثوان ثم اعاد قراءة الاسم بصوت مسموع عله يدرك الخطأ
ولكنه لا يجد ...
يحاول  ان يقنع نفسه بأنها صدفة مزعجة ..ولكن يفشل فى الاقتناع بعدم فتح الرسالة
عادة هو لا يفتح رسائل الغرباء ويجعلها ضمن قائمة البريد المزعج
ولكنه لم يستطع مقاومة  معرفة فحوى تلك الايميل بالأخص
ففتح الرسالة وبدأت العاصفة

أعلم انك نسيتنى ..نسيت اسمى وشخصى ..خشيت الا تفتح بريدى اليك اذا ارسلته باسمى ..فبحثت فى ذكرياتى وأيقنت ان هذا الاسم لن تنساه ما حييت
نعم انا ..من اسميتها دميتك حين أوحيت اليك انى ملك يديك للابد
انا من صدمتك حين هجرتك وتركتك وحيدا ..
انا من قتلتك بدم بارد  ..دققت نعشك بيدى حين دقوا طبول عُرسى الى غيرك
ووضعت ورودا حمراء على قبرك حين سلمونى باقة ورودى
أنا من رأيت فى وجهى صلابة الثلج وفى صوتى برودته حين أعلنتك بخطبتى
اليك أخبارى وانا اعلم يقينا انك لا تسعى لمعرفتها 
تعرف ان زوجى كان فلسطينيا .. ولكنا كنا نعيش بأمريكا
وتعرف أنى هاجرت للابد بعدما قاطعونى أهلى لفرضى عليهم زواجا مفاجئا وكأنهم يحملون همك أكثر من همى
ولكن مالا تعرفه انى انجبت من زوجى ثلاثة اطفال ولدان وبنتا ..هم كل حياتى وأهلى ..
ومالا تعرفه ايضا اننا انفصلنا بعد عدة سنوات ..فصرت اقتسم معه اطفالى اسبوعيا 
ارتضيت تلك الحياة الصعبة ومنعنى كبريائى من العودة الى أهلى او اليك
كما منعنى حبى  وولعى بأطفالى  أن أبعد عنهم
صارت حياتى ماسخة الطعم كالحة اللون بعيدا عنهم.. فلا تُرد الىّ روحى الا باستردادهم بعد سبعة أيام أعيشها سبعة اعوام ..فيجرى بى الاسبوع بصحبتهم وأجدهم عادوا لحضن أبيهم  وتركونى ثانية
هكذا كنت اعتقد ان الله يعاقبنى على ما فعلته بك وبأهلى  فتُكفَر ذنوبى  وتُمحى سيئاتى.وكان هذا هو عزائى الوحيد ما يجعلنى أتحمل عقابى راضية غير شاكية لأحد ..وكأن لى أحدا اشكو اليه
ولكنى فوجئت بأن الله لم يعاقبنى بعد وان سيئاتى أكبر من أن يمحوها فقدان ووحشة لأطفالى
سافر زوجى الى اهله بفلسطين بعدما أقنعنى أنها أيام ويعود وأن أهله يشتاقوا لرؤية أحفادهم
وبعد رجاء وبكاء من أطفالى سمحت له بأخذهم
ولم أكن اعلم انه ذاهب الى غزة
نعم غزة
أظنك الآن قد عرفت ما انا فيه وما أعانيه
ذهب أطفالى عنى ولم يعودوا
لا سبيل للوصول اليهم  ..لا تليفون أرضى ولا جوال
اشاهد التلفاز وأبحث عن وجوه أطفالى بين القتلى والجرحى  ...بين المحاصرين ..بين الباكين على جوانب الطريق والمختبئين داخل السكنات والمدارس
صرت خيالا ..جسدا نفرت منه الروح
لا أطعم ولا أشرب
لا أصحو لأنى لا أنام
فقدت عقلى  وكدت  أموت كمدا على أطفالى 
صليت لربى كثيرا ..أدعوه فى كل سجود أن يرحم حالى الضعيف ويعيد لى فلذات أكبادى
لم أعد لوح الثلج الذى وصفته ..صرت انا والنار كيانا واحداً تشتعل أوصالى ويستعر قلبى كل ثانية
أيقنت أنها ذنوبى وحق من ظلمتهم
حاولت الاتصال بمن تبقى من اهلى كى أعتذر وانا أعلم ان اعتذارى فقد قيمته لديهم فلم ألق منهم بالا
وبحثت فى اوراقى القديمة عنك لأعلمك انى على استعداد الرجوع والجثو امام قدميك  أقبل الارض أسفلهما على ان تسامحنى والا تحفظ فى قلبك لى ضغينة .
ظلمتك قديما ودار الزمن وسُلط سيف الحق على رقبتى
أعلم أنى إن طلبت منك ان تتخيل أنهم اطفالك دون غيرك ..سأصبح أكثر استفزازا
ولعلك الآن تتسائل.. .فماذا تريدى منى الآن!!؟
أجيبك بأنى أعطيك الفرصة للتشفى فى ..وأخذ حقك منى كاملا..فهى دعوة أحدهم بان يُحرق قلبى كما فعلت أنا بغيرى سابقا
ولأن دعوة المظلوم مجابة ..فلتدع على من ظلمك ..ادع علىّ بفاقة وألم لا ينتهى  ..بموت حرقا .. بصرع غرقا
فلتثأر لنفسك بما شئت.. وعد لى بأطفالى
لعل الله لا يأخذهم بفعل سفيهة مثلى   فيحفظهم سالمين وسط الجحيم كما حفظ  نبيه ابراهيم من النار
أنت ورقتى الأخيرة... فلا تخذلنى  كما خذلتك

تسمرت عيناه بالشاشة حتى بعد ان انتهى من القراءة
سخونة الدمعة على وجهه البارد  هى ما جعلته يدرك انه يبكى
لم يبكِ كثيرا حين شاهد صور الأطفال فى التلفاز
ولم يتحرك كثيرا حين طلبوا منه اداء دوره كمحترف فى عمل الفيديو على يوتيوب والاستعانة به فى نشره بالخارج
ولم يتردد كثيرا حين اشترى علبة سجائره   بالرغم من توقيعه فى حملة للمقاطعة
ولم يرتعد خوفا حين سمع دعاء أم ثكلى على العرب المتواطئين قادة وشعبا
ولكنه رأى وجه دميته القديمة فى وجه هذه الثكلى ..وقد تحول الدعاء عليه الى رجاء منه
حين قرأ كلماتها لم يجر أمامه شريط ذكرياته معها كما يحدث فى الأفلام العربية ..بل مر شريط  آخر ...يحمل صورا آلمت  واستغاثات أُجهضت وصرخات عجزت عن الوصول الى قلوب البعض
عجزاً وتخبط جعل هذه المسكينة تدعو الخالق ثم تستعين بمخلوق ..تتضرع الى ربها ثم تتذلل الى بشر مثلها 
بكى وانتحب كثيرا وكأنه أدرك الآن فقط حقيقة ما يحدث

ذهب ليتوضأ ويصلى  ..
دعا الله لها ولأطفال المسلمين
ثم قام فكتب تدوينة جديدة ..

لو اننا رأينا انفسنا فى هؤلاء الثكالى
لو اننا رأينا اطفالنا فى هؤلاء الذبحى
لو اننا مسلمين بحق....   ...  


*************************************************
لا يفوتك قراءة