Thursday, June 5, 2008

رحلة فى ترام الرمل


خرجت من بناية عالية ... تتعلق يد طفلتها بيدها.. تشعر بسعادة عارمة ...أخيراً ستستقل ترام الرمل... يااااااه ..مرت فترة طويلة دون أن تركب الترام ..لو استطاعت أن تقضى مشوارها هذا حين ذهابها إليه أيضاً بالترام لفعلت.. ولكنها تأخرت كثيراً عن موعدها فأضطرت إلى ركوب تاكسى ..والآن هى تملك الوقت للعودة بها


ذهبت الى المحطة ..ووقفت تختار من بين ثلاث عربات يهموا بالقيام ..اختارت أقلهم إزدحاماً .. حيث لا تصل إلى آخر الطريق ....وأتجهت إليها تحمل طفلتها لتجلس فى مقعد من وسط أربعة فارغين تماما ...فأتخذته بجانب النافذة كما اعتادت قديماً .. وقبل أن يهم السائق بالقيام ..ركبت سيدة عجوز ...وأختارت المقعد المواجه
تعجبت حيث المقاعد الفارغة كثيرة ..ولكنها إنتويت إن تستمتع بكل لحظة فى طريقها ..فلا تضيع ثوان فى تساؤلات تافهة

سارت الترام فى سلام .وبدأت هى فى تذكر صوت الترام على القضبان ..وإنتظام طرق العجلات فى مسارها وكيف كان يجعلها ذلك تسرح فى واجهات المحلات والبنايات بل وألوان السيارات المارة بجانبها

نظرت حولها لتجد آخرين وقد اتخذوا مقاعد مجاورة
سبحان الله...تكاد تجزم أنها نفس الوجوه التى إعتادت رؤيتها من سنين

نساء عائدات من وظائفهن
إمرأة عجوز ...فضولها يقتلها لمعرفة عما يتحدثن
أم تنهر ولدها لأنه ألح فى شراء فشار وآيس كريم ..وله ان يختار واحدة فقط
طالبات جامعة ..ذكروها بأيام جميلة فأبتسمت ..ثم أحست بأن فترة من الزمن قد فاتت وإنقضت فلوحت وجهها عنهم

هذه الوجوه إن إهتمت لها أكثر من ذلك ستضيع عليها فرصة رائعة لممارسة واحدة من لعباتها القديمة
عليها أن تعد خمس سيارات ثم تنظر إلى السادسة لتكون سيارة المستقبل
فتفرح حين يقع النصيب على عربية حديثة
وتنزعج حين تجدها "127" او "قردة" مثلاً
كان هذا قديماً

ولكنها ما أن بدأت إلا وقد وجدت كل السيارات "سبور" كما تمنت ..ولكن ليست بألوانها المفضلة

وجدت نفسها تتمتم بكلمات اغنية لأم كلثوم
فأطلقت العنان لنفسها وترنمت بجمل كثيراً ما أعجبتها فى أغنية
"أصبح عندى الآن بندقية"
تنظر لها إبنتها وتبتسم ..وتشير الى عربة حمراء قائلة ..بابا
تربت على ظهرها ضاحكة ..وتسند رأسها إليها
ثم تعاود الغناء بداخلها
لتجد نفسها تتمايل متأثرةً وكأنها تحمل ميكرفوناً عند جملة
"عشرين عاما وأنا أبحث عن أرضٍ وعن هوية"
وقد إنعقد حاجباها تأثراً

فتستفيق لتجد السيدة العجوز أمامها تنظر لها فى فضول قاتل
يا خبر ابيض.." قالت لنفسها ".. ستظننى مجنونة

أكملت بعض الكلمات فتهدأ معها تقاسيم وجهها .. حتى يبدو طبيعياً للسيدة العجوز
أبحث عن طفولتى ..وعن رفاق حارتى
عن كتبى ..عن صورى ... عن تيرارارا ...لم تستطع تفسير هذه الكلمة من قبل

ولا تزال السيدة تنظر لها شذرا....ثم خرجت عن صمتها فجأة قائلة

ابنى مجننى كده ...خلانى ماشية اكلم نفسى فى الشارع
خير...رائع .... هى تأكدت الآن انى غير طبيعية

فأكملت السيدة ذات الايشارب الذى يلف وجهها وإن لم ينجح فى إخفاء خصلات شعرها البيضاء
لما بيتجوزوا ...بينسوا أمهم وأبوهم ...ويلزقوا كده جنب مراتتهم..يمين ..حاضر ...شمال ..حاضر
انتبهت هى لها ..فالسيدة تحمل عبئا ثقيلا وتحتاج للفضفضة
أكملت السيدة بإختصار وكأنها ملت من تكرار هذا الحديث لآخرين يسبقونها
اعتدلت هى فى مقعدها قائلة لها.. إبن حضرتك ميقدرش يستغنى عنك ..هو بس بيدلع عليكم .. وحاولت ان تتذكر ما يقال فى هذه المواقف .. فقالت لها ان تهدأ وأن تتذكر دعاء فك الكرب ..وان تكثر من "لا آله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين" .وألا تحاول الضغط عليه ..بل عليها أن تتحدث معه بروية وأن السياسة فى مثل هذه الأمور تعطى نتائج أفضل ....فدخلت فتاة بجانبها فى الحديث دون دعوة ...تعجبت هى فى بادىء الامر..ولكنها نظرت إليها فوجدتها ملائكية الوجه ذات خمار يلفها ..فابتسمت لها ..فلكم تحب هؤلاء الفتيات المختمرات

بدأت الفتاة فى الحديث ..وقد فتح الله عليها فأنطلقت لتقول مالم تكن ستقوله هى أبدا ..بالرغم من معرفتها بكل ما سمعت إلا أنها أبدا لم تكن متحدثة جيدة تخطف العين وتملك الأذن ...تمنت كثيرا لو كانت بهذه الشخصية حين كانت فى نفس العمر ...فلطالما إنشغلت بإهتمامات الفتيات العادية ..ولم يشكل الدين عندها هذه الاهمية فى وقتها ..محجبة كانت تصلى وتصوم .ولكنها لم تفعل الكثير غير الروتين والعادى والمعتدل فى نظرها تلك الأيام
انتبهت لتجد الترام وقفت فى محطة كليتها قديما
فتداعت ذكريات جميلة أخرى ...وتذكرت هذا الطريق ....
بكت فيه ذات مرة ...وضحكت مرات ..
فارقت فيه صديقة ... وتوطدت فيه صداقات
سرحت بخيالها مرة أخرى
تمر الترام الآن بجانب مكان يحمل لها أهم ذكرى فى حياتها
ولكن نهاراً ...يصعب التخيل .. فالمكان هنا يبدو مختلفاً كثيراً ليلاً
عادت لتنصت لحديث الفتاة مبتسمة .. فيالحظ السيدة العجوز بها ...فلعلها الآن ستغادر الترام بوجه غير الأول متمتمة بأدعية تهدىء البال وتزيل الكرب

نظرت إلى وجهها لتجدها تنظر للفتاة بنفس تعبيرات الوجه ... لا تزال ناقمة على إبنها حزينة لما آلت إليه معه...فحزنت هى أيضا كثيراً لحالها ...حقاً يدنا فى الماء البارد ..من يعلم ما تعانيه المسكينة

فى هذه اللحظة ..وجدت السيدة تحرك يداها يميناً وشمالاً وإلى أعلى تتمتم بكلمات ...فإذا بالترام تمر من أمام الكنيسة..
نظرت إلى الفتاة بجانبها..ونظرت إليها هى الأخرى ..فتبادلا الإبتسامة هذه المرة ...تخشين أن تتسع

وتشير إبنتها الى عربة حمراء أخرى ...بابا
هذه المرة الترام عند محطة بيتها القديم.... بحثت بعينها عن رجل الصفارة ..هكذا أطلقت عليه ..حيث كان لا يروقه إطلاق صفارته للترام إلا فى أذنها وهى تمر بجانبه... حاولت ألا تسترق النظر إلى الطريق المؤدى لبيتها القديم ..فقد لا تتمكن من حبس دموعها إن تذكرت هذا الطريق بالأخص
تأخرت الترام فى قيامها هذه المرة ...حوار بين رجل صفارة آخر وبين الكمسارى ... ألقت ببصرها بعيداً ..ونظرت فى الإتجاه الآخر ..لتجد بائع النعناع الصباحى وقد إنطلقت فى وجهه التجاعيد ..هذا أباه بلا شك ...يستحيل أن يشيخ هكذا فى هذه الفترة القصيرة
ضحكت على نفسها تهكماً هذه المرة
قامت الترام مرة أخرى ..وقبل أن تبتعد ...نظرت فى سرعة وتحدى إلى الطريق ..لم تمنع نفسها ..ولكنها منعت دمعتها
تجد أنها يجب أن تستعد لمغادرة الترام ....قائلة فى نفسها ..حقاً لم ولن أمّل يوماً من ركوبها

إستأذنت وألقت السلام ... ردت عليها كلا من الفتاة والسيدة العجوز..
بنفس الرد ...غير انها سمعت" وبركاته" من الفتاة وحدها

حملت طفلتها ونزلت من الترام
وإنتظرتها لتغادر.. تنظر لها وكأنها قطاراً يحمل غالياً مسافراً

ثم أكملت طريقها إلى البيت
وهناك أشارت طفلتها مرة أخرى
بابا ..

ملحوظة ...الاغنية النادرة " اصبح عندى الان بندقية " تجدونها فى مدونة الاستاذ سيد جنّى المصباح "جنّى"..جزاه الله عنا خيرا ..وتحياتى لذوقه الراقى ...