Tuesday, June 26, 2007

فصبرا جميلا


اوقف هشام سيارته امام المستشفى ونزل منها مسرعا



وتقدم بخطا ثابتة نحو المدخل ..... ثم وقف فجأة



الامر ليس بهذه السهولة....هكذا كان يفكر هشام ...مضت فترة ليست بالقصيرة على وفاة ابنته....تلك الزهرة الناعمة التى لم يتعد عمرها السابعة حين لقت وجه ربها



ولا زال يتذكر بل يعيش الايام المرعبة ...والساعات العصيبة ..... واللحظات المرة


لازال كلما مر امام المستشفى ..... ذلك المبنى الضخم....الذى تحيطه حديقة هائلة مليئة بالورود العطرة ...والشجيرات الجميلة والتى من المفترض انها باعثة على الامل والتفاؤل


الا انها لا تبعث فى نفسه الا الشعور بالوحدة والاكتئاب ......شعور باليأس .. بالضياع و بالموت



وحين عدل هشام عن قراره بزيارة صديقه الصدوق وقرر ان يحدثه على الهاتف مطمئنا بتفهم صديقه له ولظروفه خاصة انه على معرفة تامة بمشاعره تجاه المستشفيات.. بعد ان خاض معه تجربته المؤلمة.. ووقف بجانبه الى ان استعاد قدرته على التعايش بدون وجود ابنته بجواره


وحين رجع بجسده الى الوراء ...ليتجه مرة اخرى الى عربته ليسلك طريق العودة



فوجىء بزوجة صديقه تخرج من البوابة مسرعة وقد لمحته


فضحك وجهها الذى يبدو عليه اثار الارهاق والتعب ....وجرت نحوه قائلة


دائما انت فى الوقت المناسب


حمدا لله انك ستكون بجواره ...... سأذهب لاحضار بعض الحاجيات من البيت سريعا ولن اتأخر .. ثم اكملت طريقها دون ان تعطيه فرصة للرد عليها



فرصة ..؟؟....وأى فرصة كان ينتظرها هشام


أيريد فعلا العودة لبيته دون ان يرى صديقه ...خاصة بعد ان علم حقيقة مرضه...... بعد ان علم انه يعانى اشد المعاناة .....بعد ان علم انها قد تكون فرصته الاخيرة فى رؤية صديقه .. توأم روحه



أمجنون انا .؟ ....قالها هشام لنفسه


لن أعطى الشيطان فرصة اخرى للتلاعب بى


كفاه ما فعله سابقا...... أفقدنى صبرى وايمانى



أضاعنى ...وأضاع فرصتى فى نيل جزاء من صبروا عند الصدمة الاولى



أعوذ بالله الكريم منك أيها الشيطان اللعين


دخل هشام الى المبنى اخيرا


صعد فى المصعد...وبجانبه احدى الممرضات وقد لوثت بقعة دم معطفها


بعث ذلك فى قلبه انقباضة


خرج من المصعد ....سائرا فى اتجاه غرفة صديقه



فاشتم رائحة الادوية والمطهرات المنبعثة فى ارجاء المكان....... وقد اعاد ذلك اليه مشاعر مؤلمة ادخلت فى قلبه حنين جارف لابنته وشعر برغبة فى البكاء



ولكنه كان قد وصل لباب الغرفة

فاستجمع قواه....واستعاذ من الشيطان الرجيم



ودخل الغرفة


وقف هشام مذهولا لما رآه من صاحبه

وجها اصفر بالغ الشحوب

جسدا غير جسد صاحبه الذى عاهده..مرتميا على الفراش


متى حدث كل هذا ... ومتى تطورت الحالة الى هذه الدرجة ..؟؟


تقدم بخطوات بطيئة نحو الفراش ........جلس بجواره ........قبض على كف صديقه بكلتا يديه


ففتح صديقه عيناه ..والتفت ناحيته


ثم ظهرت على شفاهه ابتسامة سخرية ...وقال


ها قد حان دورك الان يا صديقى



فاعتدل هشام فى جلسته وهو يحاول ان يخفى قلقه البالغ......قائلا


أى دور أيها المتمارض الكسول ..؟؟


فرد عليه صديقه


دورك فى ان تقف بجوار زوجتى وتواسيها حتى تجتاز المحنة....كما فعلت انا معك سابقا


وقبل ان ينطق هشام ببنت شفة ....... اكمل صديقه قائلا


انا اعرف تماما ما ستقوله .....ولكنى اريد ان اوفر الكلام والوقت


لقد سمعت بالامس الممرضات يتحدثن عن حالتى الميئوس منها وانه لا داعى لأخذ العينات التى طلبها الطبيب وكأنه يريد فقط ارهاقهما بالعمل و بالرغم من معرفة تأخر حالتى ...الا انهم مأمورات ولا حيلة لهن


وقد ظنن انى نائم ولا اسمعهما ....ثم قاما بايقاظى لأخذ العينات وكأن شيئا لم يحدث


وانا اشعر فعلا الان بالتعب الشديد


وقد مللت هذا التعب ...ولا استطيع تحمله بعد الان....واصبحت اتمنى الموت ...عله يكون راحة لى ولمن حولى


وأشعر ان ساعتى قد حانت الآن......ولذلك اقنعت زوجتى ان تغادر بحجة انى احتاج الى اشياء من المنزل ...كى تتأخر لعل الله يرحمها من رؤيتى انذاك


فلم استطع ابدا نسيان حالتك حين كنت تشهد احتضار ابنتك ....وانت تقف عاجز عن التصرف...تريد ان تخطف ابنتك وتجرى هربا من الموت ولا تستطيع


لذلك احاول بكل ذرة حياة متبقية ... ان اجنبها ذلك المشهد


وها هو هشام يتذكر مرة اخرى اصعب ما رآه فى حياته


ولكنه هذه المرة لم يبكى ....لم يستسلم لمشاعره الضعيفة ...بل صمت برهة ثم قال


لقد تركتك تكمل تفاهاتك كما يحلو لك ....ولم اقاطعك بالمرة


فلا استطيع ان اصدق ان من يتكلم الان هو نفسه صديقى المؤمن ....الذى لم اعهد فيه من قبل الا العقل والحكمة


أين ايمانك الآن يا رجل ..؟؟


هل اختفى مع اول محنة تواجهها ؟؟


هل نسيت ما كنت تردده دائما على اذانى ليلا ونهارا..؟؟


انا لم اعرف ولم اسمع الاحاديث التى قلتها لى الا منك انت


لم اكن قط حافظا للقرآن الا بعد ان هدانى الله وقد كنت انت سببا وقد ظننت اننا خلقنا لنكون اصدقاء ولتقف بجانبى وليجعلك الله سببا فى هدايتى والله اعلم


أتذكر ما قلته لى حين تمنيت الموت انا ايضا بعد موت ابنتى


الا تذكر الاحاديث التى قلتها لى وقتذاك


قال صلى الله عليه وسلم : لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به


والحديث .... قال صلى الله عليه وسلم :لا يتمنين احدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه , انه اذا مات احدكم انقطع عمله انه لا يزيد المؤمن عمره الا خيرا


والحديث ...قال صلى الله عليه وسلم :لا تمنوا الموت فان هول المطلع شديد وان من السعادة ان يطول عمر العبد حتى يرزقه الله الانابة


فماذا دهاك الآن لتفعل غير ما حدثتنى ؟


اجبنى يا صديقى .....فالله وحده أعلم كم انا الان مستاء وخائف عليك


حاول صديقه ان يرد ...ولكنه اجهش فى البكاء ...واخذ يستغفر ربه

ثم قال

اعلم يا صديقى ما قلت... ولكن ينقصنى الصبر


فرد عليه هشام

والله لا اجد نفسى اقول شيئا الا واجد انك قلته لى من قبل

الم تتذكر حين كنت ادعو ربى ان يرزقنى الصبر ...وانا فى نفس الوقت منساق وراء مشاعرى الضعيفة وكنت استسلم اخيرا للاكتئاب

الم تقل لى وقتها ان الصبر ليس كلمات تقال وانما فعل وارادة

قال تعالى :ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين


فأين ارادتك ...أين عزيمتك ....وأين ايمانك بالله ..؟؟؟


صمت صديقه للحظة ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة .....ثم قال ...


ونعم بالله


واستعينوا بالصبر والصلاة . ان الله مع الصابرين


خذ بيدى يا صديقى لاصلى


ساعده هشام فورا على النهوض وعاونه فى وضوءه ....ثم توضأهو الاخر


وقاما فصليا ركعتين بنية قضاء الحاجة


بعد ان انهيا صلاتهما وكان فى طريقهما للجلوس فى شرفة الغرفة


استوقفهما صوت زوجته وقد دخلت الغرفة مسرعة ...وهى تقول انها قابلت الطبيب فى طريقها وانه يريد التحدث معهما بعد ان ينتهى من معاينة مريض فى الغرفة المجاورة


جلس هشام وصديقه ....وجلست الزوجة بجوارهما


وأخذ كل منهم يتمتم بما فتحه الله عليه فى تلك اللحظة


مضت دقائق كانت تبدو لهم ساعات وهم فى انتظار الطبيب


وعندما دخل اخيرا الى الغرفة


صمت ثوان ...ثم قال


لقد عدت التحليل اكثر من مرة لأتأكد مما سأقوله لكم الآن


سبحان الله ....هذه اول مرة الحظ تغيير مفاجىء وسريع فى نتائج تحليل مريض يعانى من هذا المرض بالاخص


لقد تحسنت النتيجة بشكل مبهر ...يجعلنا نكمل العلاج وكلنا ثقة وايمان بالله فى الشفاء باذن الله وحده


أخذ الجميع فى البكاء .. وقد تبين صوت الصديق قائلا بصوت يملأه الفرحة


الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه ملء السموات والارض وملء ما بينهما


ثم نظر الى هشام .....وقال


كنت على حق اذن عندما قلت لك ان دورك قد حان


قد بعثك الله لى .... وأنت نعم الصديق


ثم انطلقت ضحكات مدوية فى ارجاء المكان

فلم يعد هشام يشتم رائحة الادوية والمطهرات......ولم يعد يرى المعاطف البيضاء الملوثة ببقع من الدماء


ولم يعد يرى الورود الا بالوانها الجميلة الباعثة على الامل


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم


عجبا لأمر المؤمن ان امره كله له خير وليس ذلك لاحد الا للمؤمن , ان اصابته سراء شكر فكان خيرا له , وان اصابته ضراء صبر فكان خيرا له .........رواه مسلم