Wednesday, February 11, 2009

الورق الأحمر

لا أعرف ما الذى جعلنى أتذكرها فجأة.. وليس هذا بجديد فدائما ما تطرق باب ذاكرتى  بداعٍ أو بدون.

لم أنسها قط ...حتى بعد مرور سبعة عشر عاما
إنها أيام الثانوية..... ولأعد معكم الى الوراء كما أفعل فى كل مرة تخطر هى ببالى
.........................

أنزل الدرج مسرعة حتى القى زميلاتى على محطة الترام ...فلا نتأخر على المدرسة
اعتدنا ركوب الترام سويا منذ الصف الأول الثانوى والآن نحن فى الثالث الثانوى وهما فى مدرسة أخرى تسبق مدرستى بمحطة ترام واحدة ..فلانزال نذهب سويا ..يسبقانى بالنزول  فى محطة بولكلى وأكمل انا الى لاحقتها
ولكن الترام تظل فى مكانها ولا تعاود التحرك 
أخشى أن أتاخر فى هذا اليوم بالأخص ..فأول حصة هى لاستاذ عصام مدرس اللغة العربية..وبوصفى طالبته المفضلة والمتميزة لديه لا يمكننى أن أتحمل نظرة لوم منه لتأخيرى
أقرر أن أنزل بدورى وأكمل هذه المسافة القصيرة سيرا على الأقدام فهى لا تتعدى محطة ونصف
نزلت ولم أكن وحدى.. فالشارع يكتظ بالناس على غير العادة
عدلت من وضع حقيبتى على ظهرى لتساعدنى فى المشى  السريع والذى لا يصل الى الهرولة ..فأنا الان آنسة ولا يجب ابدا ان أجرى فى الطريق حتى لو كنت طالبة مدرسية
القادمات فى وجهى يزددن عددا عن من فى طريقى
فيتضح لى ان الترام معطلة أيضا فى الجانب الآخر
ولكن شيئا عجيبا يحدث ها هنا ..فمنهن من تبكى ومنهن من تجلس على الرصيف  حولها صويحباتها يهدأن من حالها 
بعض الكلمات تترامى الى أذنى 
حادثة ...بنت ... لا انها سيدة ... بل رجل وامراة ... صدمتها الترام ...دهسه العجل 
حقيبة مدرسية ... كراسة ....مدرسة الرمل
وعند هذه الكلمة  أحسست بقلبى ينخلع من مكانه...فهى حادثة لطالبة معى فى نفس المدرسة 
قد تكون احدى صديقاتى ..وقد تكون سها أقربهن الى قلبى 
تثقل خطواتى بعكس روحى التى تطير فى الطريق وعينى التى تبحث شخصا يخبرنى بما يجرى 
حتى أصل الى المحطة التالية فأجد زحاما شديدا ...صراخ ..صوت عال
الآن أسمع بوضوح أن احدى الطالبات انزلقت قدمها من الترام بعد ان فتح السائق  أبوابها دون أن يقف
وانها ...ماتت
لا أعلم إن كان أحدكم قد عاصر هذه اللحظة سابقا أم لا ..ولكنها لحظة صعبة الوصف بل مستحيلة .
اذ يتحرك الناس من حول الفتاة المسجية على قضيب الترام فجأة ..فتظهر لك أوراقا حمراء كثيرة ليتبين بعد ذلك أنها أوراق جرائد تتطاير من فوقها ويحاول البعض اعادتها حتى لا تنكشف بشاعة المنظر 
لحظة تمر بك  لا تقوى فيها على النظر.. ولا يمكنك أن تغلق عيناك ..ولا ان تشيح بوجههك عنها 
تتسمر القدم  وتتسمر معها العين واللسان ...حتى تشعر أن غصة بدورها قد تسمرت فى حلقك الذى يؤلمك فجأة ..كما تشعربسائل محرق بعينيك تجمد بهما كما تجمدت انت 
تتمنى لو أن أحدهم صدمك بقوة لتعرف ان كنت قادرا على الحركة ام انه الشلل الرباعى
أم أنه  إحدى الكوابيس والتى تبدو كالحقيقة تماما ..كأن تقع من اعلى  وتظل تسقط حينا من الدهر .. تتمنى ان ترتطم بالأرض لتستريح
هل تحول الكابوس الى تلك الملىء بالورق الأحمر القانى 
كلاهما فى نظرى مؤلما بشدة  

فجأة... جرت احدى الفتيات منهارة فصدمتنى  
لم أقع ولكنى عاودت السير فى طريقى ..فمبتغاى الوحيد الآن أن أصل الى مدرستى .. أن أرى وجها أعرفه ..أن أجد يداً أتشبث بها فلا أعرف كيف أفعل ولا ماذا ولا متى
ماذل لو كانت سها  هى الملقاة تحت تلك الورق الاحمر!!؟
ماذا لو فلانة ...أو فلانة!!؟ 
ماذا لو غيرهن !!؟أيغير هذا من الأمر شيئا 
فتاة مثلى ترتدى رمادى اللون وأجمله تحتضن حقيبتها تهم بالنزول من الترام كى تلحق مثلى بحصتها الأولى
تقفز صورة سها مرة أخرى فى رأسى ..فأجدنى أهرول الى باب المدرسة ..الفناء عجيب ...لا طوابير ..ولا فراغ ايضا ...فالفتيات يملأن المكان ..بكاءا   واندهاشا ..وبعضهن تضحك ..قائلة انا عايزة اتفرج
سلالم المبنى أصبحت طويلة  بالرغم من صعودى سلمتين فى سلمة
أسمع فى طريقى ...البنت طلعت من تالتة عاشر
أصل الى باب الفصل  تتصاعد أنفاسى  مسندة يدى اليه ..بالأدق الى لافتة الفصل والمكتوب عليها تالتة عاشر ..
أبحث  بين الوجوه
أسمع كلمات الحمد من البعض ..الحمد لله اهى "........" جات فاضل منال ونيفين وداليا وسها

سها مجاتش ...هكذا أصرخ 
وكأنى قد تيقنت أن سها هى من احتواها  تلك الورق الأحمر
أجلس بمقعدى باكية واضعة رأسى بين كفىّ..لأجد من تهز كتفى بشدة ...انتى جيتى ...انا اعدة ادور عليكى
فأجدها سها ..فأحتضنها وأبكى بقوة أكثر
وبعد أن هدأت.....انتفضت واقفة ..فقلت ان هناك تالتة عاشر أدبى ...ليس من الضرورى أن تكون من فصلنا 
وسبحان الله اذا جلس البعض ليدعو ان تكون الفتاة المسكينة من تالتة عاشر أدبى وكأنهن فتيات من كوكب آخر ..وأنهن فجأة أصبحن أعدائنا 
تصل فتاة من فصل الأعداء ..باكية هى الأخرى فتسألنا  عن تغيب احدانا 
ونسألها ..فنجد ان ثلاثة ايضا متغيبات بفصلها 
نظل فى هذا القلق والحيرة 
تتذكر احدى الفتيات ...
بس نيفين ساكنة اصلا جنب المدرسة وبتيجى مشى 
الحمد لله 
فاضل منال وداليا 
سها تسألنى 
مين داليا!!!!؟
أخبرها بأنها الفتاة التى تعيد السنة وتجلس بآخر مقعد ....فتسرح لتتذكرها 
أخبرها انها الفتاة الشقراء الهادئة التى لا تتكلم مع أحد  ..فلا تتذكرها
أخبرها انها التى صاح بها أستاذ الفيزياء فى آخر حصة ونهرها بشدة حتى بكت أمامنا جميعا ...فتتذكرها

يدخل استاذ عصام متجهم الوجه لا ينظر الينا وكأنه يخشى نظرة عيوننا
يجلس قليلا... أصوات البكاء والنهنهة تستفزه فيخرج الى الطرقة
يطلبن منى ان أذهب  انا لأسأله عما يعرفه وإن كانت معلومة هامة وصلت اليه ..فهو لن يصيح بى ولن يعاقب  طالبته المفضلة
أتردد كثيرا ...ولكنه قد يستطيع أن يهدىء من روعنا  اذا كان بالفعل يعلم شيئا ..
أخرج اليه ..واعود بعد ثوان باكية ...فيصرخن بى الفتيات 
مين؟؟؟؟
أخبرهم أنه ما ان رآنى حتى أشار بأصبعه لأن أعاود الدخول..ويكفى أن نهرنى بعينه
الآن انا لا أعلم لما أبكى 
حزنا على الفتاة التى لا تزال مجهولة 
أم خيبة أمل بعد ان اكتشفت ان حتى انا يعاملنى استاذ عصام كغيرى
أم أنها تلك الانقباضة  والرعشة التى لازالت تسرى فى جسدى منذ رأيت الورق الأحمر

تدخل المشرفة على الغياب فجاة
تنحبس الأنفاس ....وكأنها تستعد للانطلاق بصرخة مدوية
عيناها حمراء .... تنظر لنا كثيرا .... يدخل استاذ عصام ..يقرأ بعض من آيات القرآن
نسألها ...تالتة عاشر علمى ولا أدبى
ترد بوضوح...علمى
..وبلغة غير مفهومة من شدة البكاء ...داليا

....................................
لكم ان تعرفوا ان داليا ليس اسمها ..ولكنها تشبه اسم داليا 
فهكذا يجب ان تكون ..داليا ..شقراء ممتلئة قليلا 
كما يجب ان تكون منى ..سمراء ونحيفة 
عادل لابد أن يكون مهندما 
ومدحت بالتأكيد يعمل كوكيل نيابة
أشرف هو الطبيب بالطبع ...وعزة ممرضته
ولابد أن تشبه فريدة ملكة جمال الكون
وعلى سوسن أن  تعزم أمرها وتوافق على عملية تجميل أنفها
هكذا هى مفردات الاسماء لدى
فلابد  اذن أن تكون داليا هى الشقراء الهادئة والوحيدة ..والتى لا أذكر أى من كلماتها  كما لا أذكر اسمها وبعض من ملامح وجهها
..........
لكنى كما لم أنس الورق الأحمر ولم أنس أن أدعو لها بالرحمة كلما تذكرتها ... أبداً أبداً لم أنسها